كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال رضي الله عنه: قد جاءت أخبار وقصص في أمر داود عليه السلام وأوريا، وأكثرها لا يصح ولا يتصل إسناده، ولا ينبغي أن يجترأ على مثلها إلا بعد المعرفة بصحتها.
وأصح ما روي في ذلك ما رواه مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: ما زاد داود عليه السلام على أن قال: {أَكْفِلْنِيهَا} أي انزل لي عنها.
وروى المنهال عن سعيد بن جبير قال: ما زاد داود صلى الله عليه وسلم على أن قال: {أَكْفِلْنِيهَا} أي تحوّل لي عنها وضمها إليّ.
قال أبو جعفر: فهذا أجلّ ما روي في هذا، والمعنى عليه أن داود عليه السلام سأل أوريا أن يطلق امرأته، كما يسأل الرجل الرجل أن يبيعه جاريته، فنبهه الله عز وجل على ذلك، وعاتبه لما كان نبيًا وكان له تسع وتسعون أنكر عليه أن يتشاغل بالدنيا بالتزيد منها، فأما غير هذا فلا ينبغي الاجتراء عليه.
قال ابن العربي: وأما قولهم إنها لما أعجبته أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله فهذا باطل قطعًا؛ فإن داود صلى الله عليه وسلم لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه، وإنما كان من الأمر أن داود قال لبعض أصحابه: انزل لي عن أهلك وعزم عليه في ذلك، كما يطلب الرجل من الرجل الحاجة برغبة صادقة؛ كانت في الأهل أو في المال.
وقد قال سعيد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف حين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما: إن لي زوجتين أنزل لك عن أحسنهما؛ فقال له: بارك الله لك في أهلك.
وما يجوز فعله ابتداء يجوز طلبه، وليس في القرآن أن ذلك كان، ولا أنه تزوجها بعد زوال عصمة الرجل عنها، ولا ولادتها لسليمان، فعمن يروى هذا ويسند؟ا وعلى من في نقله يعتمد، وليس يأثره عن الثقات الأثبات أحد.
أما أن في سورة الأحزاب نكتة تدل على أن داود قد صارت له المرأة زوجة، وذلك قوله: {مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} [الأحزاب: 38] يعني في أحد الأقوال: تزويج داود المرأة التي نظر إليها، كما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش؛ إلا أن تزويج زينب كان من غير سؤال للزوج في فراق، بل أمره بالتمسك بزوجته، وكان تزويج داود للمرأة بسؤال زوجها فراقها.
فكانت هذه المنقبة لمحمد صلى الله عليه وسلم على داود مضافة إلى مناقبه العلية صلى الله عليه وسلم.
ولكن قد قيل: إن معنى {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} [الأحزاب: 62] تزويج الأنبياء بغير صداق من وهبت نفسها لهم من النساء بغير صداق.
وقيل: أراد بقوله: {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} [الأحزاب: 62] أن الأنبياء صلوات الله عليهم فرض لهم ما يمتثلونه في النكاح وغيره.
وهذا أصح الأقوال.
وقد روى المفسرون أن داود عليه السلام نكح مائة امرأة؛ وهذا نص القرآن.
وروي أن سليمان كانت له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة جارية؛ وربك أعلم.
وذكر الكيا الطبري في أحكامه في قول الله عز وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} الآية: ذكر المحققون الذين يرون تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن الكبائر، أن داود عليه السلام كان قد أقدم على خِطبة امرأة قد خطبها غيره، يقال: هو أوريا؛ فمال القوم إلى تزويجها من داود راغبين فيه، وزاهدين في الخاطب الأوّل، ولم يكن بذلك داود عارفًا، وقد كان يمكنه أن يعرف ذلك فيعدل عن هذه الرغبة، وعن الخطبة بها فلم يفعل ذلك، من حيث أعجب بها إما وصفًا أو مشاهدةً على غير تعمد؛ وقد كان لداود عليه السلام من النساء العدد الكثير، وذلك الخاطب لا امرأة له، فنبهه الله تعالى على ما فعل بما كان من تسوّر الملَكَين، وما أورداه من التمثيل على وجه التعريض؛ لكي يفهم من ذلك موقع العتب فيعدل عن هذه الطريقة، ويستغفر ربه من هذه الصغيرة.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ} فيه الفتوى في النازلة بعد السماع من أحد الخصمين، وقبل أن يسمع من الآخر بظاهر هذا القول.
قال ابن العربي: وهذا مما لا يجوز عند أحد، ولا في ملّة من الملل، ولا يمكن ذلك للبشر.
وإنما تقدير الكلام أن أحد الخصمين ادعى والآخر سلّم في الدعوى، فوقعت بعد ذلك الفتوى.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر» وقيل: إن داود لم يقض للآخر حتى اعترف صاحبه بذلك.
وقيل: تقديره لقد ظلمك إن كان كذلك.
والله أعلم بتعيين ما يمكن من هذه الوجوه.
قلت: ذكر هذين الوجهين القشيري والماورديّ وغيرهما.
قال القشيري: وقوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} من غير أن يسمع كلام الخصم مشكل؛ فيمكن أن يقال: إنما قال هذا بعد مراجعة الخصم الآخر وبعد اعترافه.
وقد روي هذا وإن لم تثبت روايته، فهذا معلوم من قرائن الحال، أو أراد لقد ظلمك إن كان الأمر على ما تقول، فسكّته بهذا وصبره إلى أن يسأل خصمه.
قال ويحتمل أن يقال: كان من شرعهم التعويل على قول المدّعي عند سكوت المدّعى عليه، إذا لم يظهر منه إنكار بالقول.
وقال الحليمي أبو عبد الله في كتاب منهاج الدين له: ومما جاء في شكر النعمة المنتظرة إذا حضرت، أو كانت خافية فظهرت: السجود لله عز وجل.
قال والأصل في ذلك قوله عز وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم} إلى قوله: {وَحُسْنَ مَآبٍ}.
أخبر الله عز وجل عن داود عليه السلام: أنه سمع قول المتظلم من الخصمين، ولم يخبر عنه أنه سأل الآخر، إنما حكى أنه ظلمه، فكان ظاهر ذلك أنه رأى في المتكلم مخائل الضعف والهضيمة، فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول، ودعاه ذلك إلى ألاّ يسأل الخصم؛ فقال له مستعجلًا: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} مع إمكان أنه لو سأله لكان يقول: كانت لي مائة نعجة ولا شيء لهذا، فسرق مني هذه النعجة، فلما وجدتها عنده قلت له ارددها، وما قلت له أكفلنيها، وعلم أني مرافعه إليك، فجرّني قبل أن أجرّه، وجاءك متظلمًا من قبل أن أحضره، لتظنّ أنه هو المحق وأني أنا الظالم.
ولما تكلم داود بما حملته العجلة عليه، علم أن الله عز وجل خلاه ونفسه في ذلك الوقت، وهو الفتنة التي ذكرناها، وأن ذلك لم يكن إلا عن تقصير منه، فاستغفر ربه وخَرَّ راكعًا لله تعالى شكرًا على أن عصمه، بأن اقتصر على تظليم المشكو، ولم يزده على ذلك شيئًا من انتهار أو ضرب أو غيرهما، مما يليق بمن تصوّر في القلب أنه ظالم، فغفر الله له ثم أقبل عليه يعاتبه؛ فقال: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فبان بما قصه الله تعالى من هذه الموعظة، التي توخاه بها بعد المغفرة، أن خطيئته إنما كانت التقصيرَ في الحكم، والمبادرةَ إلى تظليم من لم يثبت عنده ظلمه.
ثم جاء عن ابن عباس أنه قال: سجدها داود شكرًا، وسجدها النبي صلى الله عليه وسلم اتباعًا، فثبت أن السجود للشكر سنة متواترة عن الأنبياء صلوات الله عليهم.
{بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} أي بسؤاله نعجتك؛ فأضاف المصدر إلى المفعول، وألقى الهاء من السؤال؛ وهو كقوله تعالى: {لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَاءِ الخير} [فصلت: 49] أي من دعائه الخير.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الخلطاء} يقال: خلِيط وخلطاء، ولا يقال طويل وطولاء؛ لثقل الحركة في الواو.
وفيه وجهان: أحدهما أنهما الأصحاب.
الثاني أنهما الشركاء.
قلت: إطلاق الخلطاء على الشركاء فيه بعد، وقد اختلف العلماء في صفة الخلطاء، فقال أكثر العلماء: هو أن يأتي كل واحد بغنمه فيجمعهما راع واحد والدّلو والمراح.
وقال طاوس وعطاء: لا يكون الخلطاء إلا الشركاء.
وهذا خلاف الخبر؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يُجْمع بين متفرّق ولا يفَرّق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» وروي «فإنهما يترادّان الفضل» ولا موضع لتراد الفضل بين الشركاء؛ فاعلمه.
وأحكام الخلطة مذكورة في كتب الفقه.
ومالك وأصحابه وجمع من العلماء لا يرون الصدقة على من ليس في حصته ما تجب فيه الزكاة.
وقال الربيع والليث وجمع من العلماء منهم الشافعي: إذا كان في جميعها ما تجب فيه الزكاة أخذت منهم الزكاة.
قال مالك: وإن أخذ المصَّدِّق بهذا ترادّوا بينهم للاختلاف في ذلك، وتكون كحكم حاكم اختلف فيه.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: {ليبغي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} أي يتعدّى ويظلم.
{إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فإنهم لا يظلمون أحدًا.
{وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} يعني الصالحين، أي وقليل هم ف {ما} زائدة.
وقيل: بمعنى الذين وتقديره وقليل الذين هم.
وسمع عمر رضي الله عنه رجلًا يقول في دعائه: اللهم اجعلني من عبادك القليل.
فقال له عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال أردت قول الله عز وجل: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} فقال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر!
الخامسة عشرة: قوله تعالى: {وَظَنَّ داود أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} أي ابتليناه.
{وَظَنَّ} معناه أيقن.
قال أبو عمرو والفراء: ظن بمعنى أيقن، إلا أن الفراء شرحه بأنه لا يجوز في المعاين أن يكون الظن إلا بمعنى اليقين.
والقراءة {فَتَنَّاهُ} بتشديد النون دون التاء.
وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه {فَتَّنَّاهُ} بتشديد التاء والنون على المبالغة.
وقرأ قتادة وعبيد بن عمير وابن السَّمَيْقَع {فَتَنَاهُ} بتخفيفهما.
ورواه علي بن نصر عن أبي عمرو، والمراد به الملَكَان اللذان دخلا على داود عليه السلام.
السادسة عشرة: قيل: لما قضى داود بينهما في المسجد، نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك، فلم يفطن داود؛ فأحبَّا أن يعرفهما، فصعدا إلى السماء حِيال وجهه، فعلم داود عليه السلام أن الله تعالى ابتلاه بذلك، ونبهه على ما ابتلاه.
قلت: وليس في القرآن ما يدل على القضاء في المسجد إلا هذه الآية، وبها استدل من قال بجواز القضاء في المسجد، ولو كان ذلك لا يجوز كما قال الشافعي لما أقرَّهم داود على ذلك.
ويقول: انصرفا إلى موضع القضاء.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء يقضون في المسجد، وقد قال مالك: القضاء في المسجد من الأمر القديم.
يعني في أكثر الأمور.
ولا بأس أن يجلس في رحبته؛ ليصل إليه الضعيف والمشرك والحائض، ولا يقيم فيه الحدود؛ ولا بأس بخفيف الأدب.
وقد قال أشهب: يقضي في منزله وأين أحب.
السابعة عشرة: قال مالك رحمه الله: وكان الخلفاء يقضون بأنفسهم، وأوّل من استقضى معاوية.
قال مالك: وينبغي للقضاة مشاورة العلماء.
وقال عمر بن عبد العزيز: لا يستقضي حتى يكون عالمًا بآثار من مضى، مستشيرًا لذوي الرأي، حليمًا نزها.
قال: ويكون ورعًا.
قال مالك: وينبغي أن يكون متيقظًا كثير التحذر من الحيل، وأن يكون عالمًا بالشروط، عارفًا بما لابد له منه من العربية؛ فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات والدعاوى والإقرارات والشهادات والشروط التي تتضمن حقوق المحكوم له.
وينبغي له أن يقول قبل إنجاز الحكم للمطلوب: أبقيت لك حجة؟ فإن قال لا حكم عليه، ولا يقبل منه حجة بعد إنفاذ حكمه إلا أن يأتي بما له وجه أو بينة.
وأحكام القضاء والقضاة فيما لهم وعليهم مذكورة في غير هذا الموضع.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: {فاستغفر رَبَّهُ} اختلف المفسرون في الذنب الذي استغفر منه على أقوال ستة: الأوّل أنه نظر إلى المرأة حتى شبع منها.
قال سعيد بن جبير: إنما كانت فتنته النظرة.
قال أبو إسحاق: ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها، فصارت الأولى له والثانية عليه.
الثاني أنه أغزى زوجها في حملة التابوت.
الثالث أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها.
الرابع أن أوريا كان خطب تلك المرأة، فلما غاب خطبها داود فزوِّجت منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا، فعتب الله على داود إذ لم يتركها لخاطبها، وقد كان عنده تسع وتسعون امرأة.
الخامس أنه لم يجزع على قتل أوريا، كما كان يجزع على من هلك من الجند، ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله تعالى على ذلك؛ لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله.
السادس أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر.
قال القاضي ابن العربي: أما قول من قال: إنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر فلا يجوز على الأنبياء، وكذلك تعريض زوجها للقتل.
وأما من قال: إنه نظر إليها حتى شبع فلا يجوز ذلك عندي بحال؛ لأن طموح النظر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة، فكيف بالأنبياء الذين هم وسائط الله المكاشفون بالغيب! وحكى السديّ عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لو سمعت رجلًا يذكر أن داود عليه السلام قارف من تلك المرأة محرَّمًا لجلدته ستين ومائة؛ لأن حدّ قاذف الناس ثمانون وحدّ قاذف الأنبياء ستون ومائة. ذكره الماوردي والثعلبي أيضًا.
قال الثعلبي: وقال الحارث الأعور عن عليّ: من حدّث بحديث داود على ما ترويه القصاص معتقدًا جلدته حدّين؛ لعظم ما ارتكب برمي من قد رفع الله محله، وارتضاه من خلقه رحمة للعالمين، وحجة للمجتهدين.
قال ابن العربي: وهذا مما لم يصح عن عليّ.